من اين لنا مثل هذا الشيخ
صفحة 1 من اصل 1
من اين لنا مثل هذا الشيخ
الناس مثل المعادن منها النفيس كالذهب ومنها الخسيس كالنحاس والصفيح،
ونفاسة المعدن وخساسته إنما تظهر بجلاء ووضوح عند الاختبار،
وأشد ما يكون الاختبار عند مواجهة السلاطين والملوك ففي مثل هذه الحالات ينقسم الناس إلى طوائف:
منهم المتابع المشايع الذي يوافق ويؤيد ويظهر الحماس لموقف السلطان وهم الغالبية من الناس،
ومنهم الساكت الذي لا يبدي رأيه مع اعتراضه في نفسه على موقف السلطان التماسا للسلامة،
ومنهم القوال القائم بالحق استشعارا للمسئولية وأمانة المكانة وهم القلة في كل عصر ومصر،
والحادثة التالية تبين معادن الناس ومنزلتهم حيث
يواجه شيخ من الأزهر لا يعرف اسمه خديوي مصر في وقته بالواقع المر الذي تعيش فيه البلد،
فلا يملك الخديوي إلا الإقرار والتصديق،
فيقيم بذلك الشيخ الحجة وينتصر لدينه من غير أن يناله ما يخاف منه في مثل تلك الحالات:
"لما وقعت الحرب بين مصر والحبشة زمن الخديوي إسماعيل،
وتوالت الهزائم على مصر لوقوع الخلاف بين قوادها وجيوشها،
ضاق صدر الخديوى إسماعيل لذلك، فركب يوماً مع شريف باشا، وهو محرج
فأراد أن يفرج عن نفسه، فقال لشريف باشا: ماذا تصنع حينما تُلِمُّ لك مُلمَّه تريد أن تدفعها؟
فقال: يا أفندينا إنى تعودت إذا حاق بى شىءٌ من ذلك أن ألجأ إلى صحيح البخارى،
يقرؤه لى علماء أطهار الأنفاس، فيفرج الله عنى،
قال: فكلم الخديوى شيخ الأزهر – وكان الشيخ العروسى آنذاك – فجمع له صلحاء العلماء
يتلون فى البخارى أمام القبة القديمة فى الأزهر
قال: ومع ذلك ظلت الهزائم تتوالى،
فذهب الخديوى ومعه شريف إلى العلماء وقال مُحْنقاً:
إما أن هذا الذى تقرؤونه ليس صحيح البخارى،
أو أنكم لستم العلماء الذى نعدهم من رجال السلف الصالح،
فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئاً،
فوجم العلماء، وابتدره شيخ من آخر الصف يقول له:
منك يا اسماعيل، فإنَّا روينا عن النبى-صلى الله عليه وسلم-أنه قال:
"لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم
فيدعوا خياركم، فلا يستجاب لهم" فزاد وجم المشايخ،
وانصرف الخديوى ومعه شريف، ولم ينبسا بكلمة،
وأخذ العلماء يلومون القائل ويؤنبونه،
فبينما هم كذلك إذا بشريف باشا قد عاد يسأل: أين الشيخ القائل للخديوى ما قال؟
فقال الشيخ: أنا، فأخذه وقام،
وانقلب العلماء بعد أن كانوا يلومون الشيخ يودعونه وداع من لا يأمل أن يرجع،
وسار شريف بالشيخ إلى أن دخلا على الخديوى فى قصره،
فإذا به قاعد فى البهو، وأمامه كرسى أجلس الشيخ عليه،
وقال له: أعد يا أستاذ ما قتله لى فى الأزهر،
فأعاد عليه الشيخ كلمته، وردد الحديث وشرحه،
فقال له الخديوى: وماذا صنعنا حتى ينزل البلاء؟
قال له: يا أفندينا أليس المحاكم المختلطة فتحت بقانون يبيح الربا؟!
أليس الزنا برخصة؟! أليس الخمر مباحاً؟
أليس أليس ، .... وعدد له منكرات تجرى بلا إنكار
وقال: كيف ننتظر النصر من السماء؟
فقال الخديوى: وماذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه هى مدنيتهم؟
قال الشيخ: إذن فما ذنب البخارى؟ وما حيلة العلماء؟
ففكر الخديوى ملياً ، وأطرق طويلاً ثم قال له: صدقت صدقت"[1]
فهذا شيخ لا يعرف اسمه يواجه الخديوي
ويناديه باسمه المجرد من غير ألقاب أو ديباجة يخفف بها وقع الكلام،
ويحمل الخديوي في جرأة وقوة إيمان سبب النكبات التي حلت بالبلاد،
فهل نجد من علمائنا من يواجه الجالس على الكرسي بكلمة الحق رحمة به وانقاذا للبلاد والعباد،
أم يظل هؤلاء على منهج الثناء والمديح وأنه لا أفضل مما هو موجود،
في حين يعلم الناس وهو من أولهم كذب هذا الكلام
وأن ما يقوله في هذا الصدد إنما هو من قبيل الغش والدجل،
وأن الأوضاع لو تغيرت لقال كلاما غير ذلك
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر
ويعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك،
واجعلنا يا رب من أهل الطاعة ولا تجعلنا من أهل المعصية،
فإنا نقدر على تحمل الفقر والجوع، ولا نقدر على تحمل غضبك وعقابك.
[1] من أخلاق العلماء محمد سليمان ص 97 ومقالات في كلمات للشيخ علي الطنطاوي ص 167،'مناهج العلماء فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فاروق السامرائي ص 138-140
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى